وسط تحذيرات حقوقية.. فيديو "المسالخ البشرية" يكشف تردي أوضاع مستشفيات سوريا
وسط تحذيرات حقوقية.. فيديو "المسالخ البشرية" يكشف تردي أوضاع مستشفيات سوريا
أشعل مقطع مصوّر لشاب سوري يقف أمام مشفى ابن الوليد في حمص يصف المستشفيات بالمسالخ موجةً واسعة من الغضب والانقسام في الشارع السوري وسط تحذيرات حقوقية بضرورة تقديم الدعم العاجل لمنع استفحال الأزمة.
في مقطع الفيديو المتداول قدّم الشاب رواية شخصية ثقيلة عن فقدان أقارب بسبب سوء الرعاية، وطالب بتفقد أوضاع المشافي في سوريا وتوجيه الموارد إلى غرف الطوارئ، وخلال البث ظهرت سيدة تشكو رفض استقبال مريض من عائلتها وهي تسأل أين نأخذ مرضانا، بينما حاول أشخاص إيقاف التصوير فارتفعت نبرة الاحتجاج واتسع صداه في منصات التواصل وصفحات محلية وإعلامية.
في المقابل، أصدرت مديرية الصحة في حمص وإدارة المشفى بياناً يرد على الواقعة ويؤكد عدم وجود تقصير، ويشير إلى تدخل الشرطة بعد تهديد طبيب داخل العناية المشددة، لتتحول الحادثة إلى مرآة مكبرة لأزمة صحية تتجاوز مشفى بعينه إلى منظومة ترزح تحت وطأة الحرب والإفقار وتراجع التمويل.
قطاع منهك بالأرقام
لا يحتاج غضب الشارع إلى كثير من الأدلة كي يثبت هشاشة المنظومة الصحية، فالأرقام تتكفل بالباقي، حيث تفيد بيانات منظمة الصحة العالمية بأن ملايين السوريين باتوا في حاجة ملحة إلى خدمات صحية، فيما لا يعمل إلا جزء من المشافي والمراكز بكامل طاقتها.
وتشير المنظمة الأممية إلى أن أكثر من نصف المستشفيات يعمل بشكل كامل تقريباً، بينما تقل هذه النسبة بكثير في مراكز الرعاية الأولية، في وقت غادر معظم الكوادر الطبية البلاد على مدى سنوات النزاع، ما ترك الفجوات مفتوحة من غرف الولادة إلى وحدات العناية.
ويحذر مسؤولو الصحة في سوريا من تفشي سوء التغذية وارتفاع الطلب على خدمات الطوارئ والأمراض المزمنة بالتوازي مع نقص الأدوية والمستلزمات، ومع ازدياد الاعتماد على تمويل إنساني يتراجع عاماً بعد عام.
ضربات تمويلية ومعول القصف
يتقدم عاملان في تفسير المشهد الراهن، أولهما الضربات التمويلية المتلاحقة لخطة الاستجابة الإنسانية، إذ تظهر تحديثات أممية أن الخطة في منتصف العام لم تتلقَ سوى جزء محدود مما تحتاج إليه، ما يعني تقليص حاد للبرامج وإغلاقاً وشيكاً لعشرات المرافق، خصوصاً في الشمال الغربي والشمال الشرقي، وثانيهما أثر الهجمات على الرعاية الصحية في السنوات الأخيرة، مع رصد أممي دوري لاعتداءات طالت منشآت ومعدات وطواقم، ما يزيد تكاليف التشغيل ويثني المانحين ويُخرج خدمات أساسية من الخدمة أو يحدّ من ساعات عملها.
ووفق الصحة العالمية، رُصدت هجمات جديدة خلال عامي 2024 و2025، بينما يبقى الخطر قائماً على المستشفيات والمراكز الإسعافية التي تعمل بقدرة أقل من الحاجة الفعلية لملايين السكان، وتفسر هذه الفجوة التمويلية والأمنية مجتمعة كيف تصبح سرائر العناية نادرة وكيف تُرحّل العمليات وكيف يطول الانتظار عند أبواب الإسعاف.
تُظهر بيانات الصحة العالمية استمرار موجات الأمراض المعدية وتفشيات وبائية جديدة، مع تسجيل حالات حصبة متواصلة منذ 2022 وتهديدات صحية موسمية مرتبطة بالحر الشديد وشح المياه وتدهور البنية التحتية في المخيمات والمناطق الريفية، ويزداد أثر الأزمة على الفئات الأضعف من أطفال ونساء وكبار سن وذوي أمراض مزمنة وذوي إعاقة، في ظل تعطل برامج الصحة الإنجابية، وانقطاع خطط المتابعة للحمل والولادة، وتراجع خدمات التحصين، ونقص مستلزمات غسيل الكلى والعلاجات السرطانية، وهذا كله يتداخل مع أزمة كهرباء ووقود تضرب غرف العمليات والحاضنات وسلاسل التبريد وتفرض الاعتماد على مولدات مكلفة ومتوترة الإمداد، ما يقصم ظهر الموازنات المحدودة للمرافق ويضاعف مخاطر العدوى وارتفاع الوفيات.
حقوق الإنسان والقانون
تضع المعايير الدولية إطاراً واضحاً لما يجب حمايته حتى في أحلك الظروف، حيث ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة البدنية والعقلية، بما في ذلك إتاحة خدمات رعاية متاحة ومقبولة وذات جودة ومن دون تمييز، ويؤكد مجلس الأمن في قراره 2286 على حماية العاملين الصحيين والمنشآت والإمدادات وعدم استهدافها أو عرقلتها، ويلزم أطراف النزاع باحترام القانون الدولي الإنساني، وتُجمع منظمات حقوقية وإنسانية على أن حماية المستشفيات وضمان وصول المرضى إليها وإبعادها عن أي استخدام عسكري ليست فقط التزاماً قانونياً بل شرطاً لبقاء المجتمع نفسه.
تلقفت منظمات محلية ودولية ضجيج الفيديو باعتباره إشارة إنذار جديدة، وتحذر تقارير حقوقية وأممية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية من أن استمرار فجوة التمويل سيغلق المزيد من المراكز الحرجة ويقلص خدمات الأمومة والطفولة والتحصين والرعاية الأولية، بينما يدفع العاملون الصحيون أثماناً باهظة على خطوط التماس وفي المدن المكتظة، وتدعو هذه الجهات إلى إجراءات عاجلة تشمل حماية المرافق والعاملين، وتسهيل العبور الإنساني، وتمويل فوري لسد الثغرات في سلاسل الإمداد والأدوية الأساسية، وتمكين برامج التغذية والعنف القائم على النوع الاجتماعي والدعم النفسي.
وعلى المستوى المحلي، تبرز الحاجة إلى شفافية محاسبية أكبر داخل المشافي، ونُظم فرز وتحويل واضحة، وإدارة شكوى سريعة، وإشراك المجتمعات في مراقبة جودة الخدمة، وتضيف تقارير صحية أن استقرار المنظومة لن يتحقق من دون تحفيز الكوادر على البقاء والعودة عبر حوافز مالية وتأمينات وعدّاد خدمة عادل، إلى جانب شراكات مع جامعات ونقابات ومنظمات طبية في الشتات لردم فجوات الاختصاص.
من الميدان إلى السياسات
وتؤكد المنظمات الحقوقية والإنسانية أن واقعة حمص تذكّر بأن الانهيار الصحي ليس مفهوماً تجريدياً، بل حياة يومية تتعثر أمام باب إسعاف أو وصفة دواء، وعلى صانعي القرار أن يترجموا هذا الإدراك إلى خطوات عملية تبدأ بتثبيت خطوط تمويل طارئة للمرافق الأكثر اكتظاظاً، وتوريد الأدوية والمحاليل والمستلزمات الجراحية الأساسية على نحو مستدام، وإعادة تأهيل غرف العناية والحاضنات ومولدات الكهرباء وأنظمة المياه والصرف، وتوسيع خدمات الرعاية الأولية لتخفيف الضغط عن المشافي، واستحداث فرق متنقلة للوصول إلى القرى والمخيمات.
كما أن توحيد بروتوكولات الفرز والعلاج وإدارة النقص، وتفعيل الرقابة على العدوى، وتوسيع برامج التغذية المدرسية والدعم الغذائي للأسر الفقيرة، كفيل بتقليل حالات الإغماء وسوء التغذية التي تتكرر في الصفوف والممرات، وسرعة الرد على الشكاوى وتمكين الإعلام المجتمعي من الإضاءة على مكامن الخلل من دون تخويف أو تكميم، ضمن بيئة قانونية تحمي الحق في الصحة والحق في التعبير على حد سواء.
وتتقاطع توصيات المنظمات الأممية والحقوقية عند ثلاث أولويات عاجلة؛ أولا حماية الرعاية الصحية والعاملين فيها من أي اعتداء أو عرقلة، وفق القانون الدولي الإنساني وقرار مجلس الأمن 2286، وضمان الوصول الآمن للمرضى والإمدادات، وثانياً سد فجوة التمويل عبر مساهمات مرنة وسريعة تضمن الاستدامة، وتمنع إغلاق المرافق الأكثر حرجاً، وتوفّر سلاسل إمداد موثوقة للأدوية الأساسية ومستهلكات غرف العمليات والعناية، وثالثاً إطلاق خطة إنعاش للموارد البشرية تتضمن حوافز وبدلات خطر وتدريباً مستمراً وتبادلاً للخبرات مع الكوادر السورية في الخارج، إضافة إلى مسارات اعتماد ورقابة جودة ترفع كفاءة الخدمة وتعيد ثقة الجمهور.
يذكر أن تدهور القطاع الصحي بدأ مع سنوات النزاع الطويلة وتدمير واسع للبنية الصحية ونزوح الملايين وتشتت منظومات الإدارة والتمويل بين جهات متعددة. منذ 2022 سُجلت موجات أمراض معدية بينها الحصبة، وتسبب زلزال 2023 في إخراج المزيد من المرافق عن الخدمة في الشمال، ومع استمرار الأزمة الاقتصادية وتراجع الكهرباء والوقود والمياه، أصبحت كلفة تشغيل المستشفيات والمراكز فوق طاقة الإدارات المحلية والمنظمات الشريكة، توضح منظمة الصحة العالمية أن جزءاً كبيراً من المستشفيات والمراكز يعمل جزئياً أو متوقفاً، وأن مئات المرافق مهددة بالإغلاق بسبب نقص التمويل، فيما رُصدت اعتداءات متكررة على الرعاية الصحية خلال 2024 و2025. وتُظهر تحديثات الاستجابة الإنسانية أن تمويل النصف الأول من عام 2025 لم يتجاوز حصة محدودة من المطلوب ما دفع إلى تقليص برامج محورية في العديد من المناطق مما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية التي تعانيها سوريا.